من يستطيع التنصل من اسم وطنه، والمدينة التى ولد فيها. لم أستطع أن أخلع على مدينتى اسما غير ذاك الإسم العريق، حاملا تاريخها.. ولدت ذات يوم، ذات سنة.. لن أكلف نفسي ذكرهما.. أوعناء ذلك.. بينى وبين هذا اليوم، إسمى.. وفترة طويلة، نقشتها أحداث، ربما تستغرق صفحة واحدة، لو سجلتها مبكرا، يوما ما.. أو ما لا أعرف ما سيكون اليوم، أم غدا.. علىّ أن أستحضر هذا اليوم البعيد، حتى أتوقف لعلى، أكمل ما حدث.. كان خليقا بهذا اليوم أن يودعنى أبى مع العمّ الوحيد لى، ترافقنا زوجته، التى لم تنجب.. فكنت الإبن لهما، حتى حين.. ورغم أنى لست أميل، إلى أن الإنسان يفارق وطنه، ومكان مولده.. فليس حتما، عليه أن يعود إليه، فى حادث أليم، أو سعيد، قبل مماته.. فلم أكن أدرك آنذاك، هذه الحقيقة.. الحنين، إلى الوطن. الواقع أن مخلوق بشرى مثلى، فى هذه السن المبكرة، كان عليه أن يدرك وجه أب، يُلوح بيد واحد، وأخرى قد إرتكنت إلى جنبه ساكنة، ملازمة، إثر شلل لازمه سنتين، بعد وفاة أمى.. لم يكن يملك سوى أخا وحيدا، ذا زوج عاقر.. وسنوات عشر من ذكريات، مع أمى الراحلة.. وثروة لا بأس بها، حوّلها كلها باسمى، بوصاية عمى، الذى إحتضنى إبنا له.. راحلا بى إلى السودان، حيث مقر عمله، كبيرا لمهندسي الرى، التابعين للبعثة المصرية.. لم يكن ليشغلنى، السبب الذى أجبر والدى للتضحية، برفقة ابنه الوحيد، وهو الميسور ماليا.. كان يمكنه إستبقائي معه، ويستحضر من يعتنى بى، من غير عُسر، أو مشقة.. رحمة عمى بى، أنستنى الكثير.. منعتنى أن أفكر، ماذا كان.. وماذا ألّم بى. لم أقلق على مستقبل.. ولم ترجح كفة إرتيابات، لا يستوعبها عقلى الصغير.. من غير ريب، أحاطتنى ذكرياتى، مع عمى الرؤوف. لم يكدر صفوى، شئ غير مألوف.. طوقنى بذراعيه، كلما هممت النظر من نافذة القطار، الذى شقّ الصعيد الأعلى، بعد مغادرتنا الإسكندرية فالقاهرة.. وصلنا إلى الحدود المصرية، لنكمل رحلتنا بالسيارة، برا، داخل الأراضى السودانية.. لا أنسى تنفسي رائحة السافانا البرية، ورائحة حطب الرعاة، المتناثرين على طول الأفق، مع الماشية.. لفحة الحرّ، والهواء الساخن، يضربنا بسياطه، كأننا نتوجه نحو النار، أو داخل مرجل نغلى به، طوال طريق طويل.. كانت زوجة عمى، تغطى وجهى بوشاحها، تضمّنى لصدرها، لئلا أصطدم، بالجدار الحديدى للسيارة الغليظ، كلما هبّت ريح ترابية، أو مررنا بأرض، غير مهيئة للسير.. كانت السيارة أشبه بأرجوحة، ترتفع لأعلى، وتهبط لأسفل.. فجأة، نرتفع، ثم نسقط مرتطمة رؤوسنا، بسقف السيارة المعرّش بالخوص،.. كم مرة، شعرت أننا فى سفينة وسط الأمواج، تتلوى فى حركات جانبية كأفعى، ليتفادى سائقنا العجوز، مخاطر وحش الطريق.. إختلست النظر إليه، من الكوة الفاصلة بيننا وبينه. أرفع رأسى، أشبّ فوق كتفى عمى قليلا، لأرى ماهناك.. فزعت صائحا، أكثر من مرة "عمى. عمى. السائق العجوز نائم. السيارة سائرة لوحدها، دون سائق" فيضحك قائلا "لا تقلق يا أمجد.. إذا نام، فالسيارة تعرف طريقها السوداني جيدا.." وترتفع ضحكات المرافقين لنا، والسائق يفرك راحتيه، يخبط بها عجلة القيادة ، مغنيا، يطربنا بلهجته، يدندن، بموال غريب، لم يغيره.. يأسرنا صوته الأجشّ الحنون، كأنه قادم، من عمق أفق بعيد.. بينما تمدّنى زوجة عمى الحنون، بالماء. أصبحت أناديها "أمى"، .. لم تتوقف عن توصيتى، أن أناديها بذلك، حتى إنتهت رحلتنا، والكلمة، كالماء الذى شربت منه الكثير، فى فمّى.. لم تفارقنى بعد ذلك، بعد وصولنا.. فتلقّانا مُستقبلنا، بالماء البارد، وشراب الدوم.. أسرع الحمّال الأسمر البشرة، بحمل حقائبنا، واحدة بعد أخرى.. إلى السكن.. وأثقلت عليه إحداهن.. وقبل أن يساعده آخر، تندر قائلا " وماذا بها تلك الحقيبة الثقيلة.. أأحضرتوا فيها أحد الأهرام؟!" ورد عليه زميله " يا أباىّ.. هذه الأهرامات الثلاثة وأبو الهول معها، يا عثمان!!".. كنت مشغولا بالجدار الشجرى الضخم المحيط، كحزام كبيير، بمجموعة المساكن الإدارية المتراصّة على مسافات قريبة، من بعضها البعض.. كان جذع كل منها، قادر على أن يبتلع عدة رجال.. مال على أذنى أحدهم، باسما " أراك سوف تحب المكان يابنى.." وبادرنى عمى " هذا عمك المهندس إسماعيل يا أمجد.. " وهذا أمجد يا إسماعيل من حدثتك عنه .." وشقت أسماعنا صرخة طفلة عن قرب ولا نراها.. وإشتدت الصرخات المتلاحقة، ليخرج الجميع مندفعين.. وتبينت مصدر الصوت فكنت أسرع منهم.. وتسمرّت أمام إحدى الأشجار الضخمة، لتلتقى عيناى بثعبان أسود ضخم، وسط أوراق الشجر الجافة، على الأرض، وأعلاه تلك الفتاة الصغيرة وقد إلتقت عيناها بعيني.. تشاور لى مرتجفة على الثعبان، الذى أخذ بالزحف، على جذع الشجرة، نحوها.. وبينها وبينه، تلاحقت نظراتى، لا أدرى ماذا أفعل... ووقع نظرى، على غصن جاف طويل ملقى، بجانب حبل أرجوحة مقطوع، طرف على الأرض، وطرف على الشجرة،.. وبيدي الصغيرتين، سحبت الغصن، لأنخز به ظهر الثعبان، غير عابئ، إلا بتلك الفتاة الصغيرة المعلقة، على الغصن، تكاد تنزلق نحو الأسود، ويوشك أن يصعد إليها.. كان مصمما على العروج، ملتصقة بطنه بجذع الشجرة.. كادت تتهاوى يداى، من ثقل الغصن، لا يفصلنى عنه سوى مسافة قريبة.. لم تمر ثوان، حتى إنطلق صوت طلقة رصاص، مرقت، فوق رأسي.. لتخترق رأس الأسود، ليسقط مضرخا، فى دمائه.. كان أول الواصلين للفتاة "عثمان الحمّال" الذى تسلق كالقرد الأغصان ليهبط بالفتاة على الأرض، أمامى، وأنا غير مصدق، ما يحدث.. وقد أسرع نحوى، متخبطا أوراق الشجر.. مناديا بأعلى صوت " أمجد.. أمجد.." يقطع صوته صوت المهدنس إسماعيل " إبتسام... إبتسام ".. تحلّق الجميع حول "المهنس إسماعيل" يهنوئنه على سلامة إبنته التى سارعت بالعدو نحوى،.. بسطت كفها الرقيق نحوى.. ماسحة على رأسى.. ثم صدرى، لتزيل أثر الغصن الذى كافحت، وهششت به، عنها.. ولم تنطق كلمة واحدة، وطبعت قبلة دافئة على جبينى.. قبل أن يحملنى "عثمان" أنا الآخر.. وأعاد زميله"متولى" حمل إبتسام بين ذراعيه. وتوجه بنا الجميع، صوب إستراحة العاملين.. وبقى رجلان، فحفرا للثعبان الضخم، وسط حشاش الأرض الجافة، وأشعلا النار فيه..، كنت أسترق النظر إلى الفتاة، وأن أُهبط "عمّة عثمان" البيضاء، لأراها.. وهى تفعل مثلي، تخفى ضحكة صغيرة بيديها الرقيقة.. ويغشى وجهها كله، إبتسامة ملائكية، كاسمها.. لم أعرف، لما تذكرت حديث عمى مع زوجته، قبل مغادرة الإسكندرية، وقد إقتحمت كلماته أذني " لا تتحدثى أمام الولد عن الثعابين ولا الموت...".. " والله، يا أخى لو رزقنى الله، من الأولاد عشرا، لما أحببتهم، كما أحب أمجد.. لا تقلق أخى الحبيب.. أمجد وديعة الله" .. وما إن وصلنا باب الإستراحة، والمساء يهم بأن يغشي كل شئ، حتى وجدنا أمامنا أمى، وإمرأة أخرى،.. ما إن نادت عليها "إبتسام" " أمى.. أمى"، حتى سقطت المرأة مغشيّا عليها..
ليست هناك تعليقات :